كنا – أطفال عمارة 5 بشارع ناصر بمنطقة الهرم – نتجمع لنلعب سوياً على بسطات السلم كل يوم. وكنا حين تضيق بنا العمارة أو يشتكي الجيران من علو صوتنا نجد ملاذ بسيط في حوش عم جمعة الواقع أمام العمارة والذي يسكنه الغفير العجوز مع زوجته وأولاده وبعض الأحفاد في عشة من غرفتين وحولهم الكثير من الحيوانات التي يقومون على تربيتها ويسلينا اللعب معها في بعض الأحيان.
كانت الأمور تبدو عادية وبالغة الرتابة إلى أن استيقظ
أهل الشارع يوماً ما على صوت هائل لارتطام ضخم لحقه صراخ عالي لأفراد عائلة عم
جمعة اثر حريق نشب في الحوش. انقلب الشارع كله يتابع خبر طائرة التدريب الهوائية
التي سقطت وتحطمت على الطرف الشرقي لحوش عم جمعة محدثة حريق صغير تم السيطرة عليه
بعد أن جاءت قوات الدفاع المدني ومعها الشرطة للتحقيق في الحادث.
كانت حورية ابنة عم جمعة تساعد معظم سيدات العمارة في
قضاء أعمالهن المنزلية. وكانت أيضاً مصدر رئيسي لنقل الأخبار وتبادل معلومات
الشارع. في اليوم التالي قالت لنا حورية كل التفاصيل التي عرفوها عن الطائرة وان
الشرطة اعتبرت الامر قضاءً وقدراً حيث لم يثبت غير ذلك واعلمتنا أن الحوش أمس كان
يعج بالبهوات والهوانم حيث اتضح أن المتدرب الشاب الذي سقطت به الطائرة هو ابن
فنانة معروفة اشتهرت بغناء الأغاني الوطنية في السبعينيات. تباطأت الجهات المسؤلة
عن رفع حطام الطائرة، فظل الهيكل يزين الحوش ويفخر به عم جمعة كإنجاز كبير فكان
يستقبل الغفراء وحراس العمارات من حوله لتفقد الهيكل.
عم جمعة رجل ذو هيبة تفرضها عليه سنوات عمره وجسده الطويل القوي دون امتلاء
أو ترهل. يبدو كوتد خشبي مزروع في الأرض منذ سنين. وكان عم جمعة رغم طيبته مع
أهل بيته له نفوذ وسيطرة على أقرانه في الشارع وكان يستغل هذا النفوذ لكسب المال.
يحل المشاحنات ويتقاضى عن ذلك هدايا بسيطة تقديراً لحكمته في رأب الصدع، يضع قواعد
وتعليمات لسير عمل الغفراء والحراس وسلوك عائلاتهم ويحدد غرامات لمن يخرج عنها،
يساعد البسطاء منهم في قضاء حوائجهم ومصالحهم الحكومية ويتقاضى أجر بسيط في
المقابل. لذلك كان من الطبيعي أن يستغل عم جمعة هيكل الطائرة المتواجد في الحوش
فيحصل تذاكر لرؤيته متعللاً بمهابة الحدث وحرمة الموت وزاعماً أن الأموال ستخرج
لله على رحمة الطيار الشهيد.
بعد عدة أيام كانت حورية تبدو ممتقعة الوجه وهي تردد
حكايات عن أن جمعة يسمع كل ليلة صوت مدوي يحاكي صوت ارتطام الطائرة ثم يرى بعدها
شبح الشاب قائد الطائرة يخرج من الهيكل المتحطم ويرحل في هدووء.
انتشرت الحكاية
على لسان الأمهات حتى وصلت لأحد الأطفال وحكاها لنا. خفنا في البداية ولكننا قررنا
أن نستشير أحممد الشاب الطويل الذي يسكن الدور السابع ويدرس في الجامعة. كنا نحب
أحمد لأنه حين يمر بنا ونحن نلعب يتوقف ليحادثنا كأننا كبار فكان أحمد هو الشاب
الذي سنكبر لنكون مثله. ذهبنا له وكلنا خوف من حكاية حورية، انصت ثم تحدث بصوته
الهادئ قائلاً: "كلام فارغ! مفيش عفاريت يا ولاد!".
قلنا له أن أم حسن صديقنا أفتت أن هذا قد يحدث اذا كانت
دماء أحد القتلى علقت بالمكان ولم تنظف، تأتي الروح كل ليلة لتتفقد آثارها إلى أن
تزال بقايها من المكان. ابتسم وقال:
"برضه كلام فارغ! سهل قوي ننزل بليل نتأكد إن مفيش
عفريت، وعموماً لو عم جمعة شاف أي عفاريت فده انتقامهم منه عشان الفلوس اللي
بيلمها على حسهم ويكنزها لنفسه".
وكان كلام أحمد بالنسبة لنا قرآن منزل، وأصبح التأكد من
امر العفريت تكليف بالأمر المباشر.
اجتمعنا قبل المغرب كعادتنا كل يوم وبدأنا في وضع الخطة.
حماسة رهيبة انتابتنا ونحن نتقمص شخصيات المغامرين أبطال الألغاز التي كنا نقرأها
في ذلك الوقت. أحضر محمد أكبرنا مجموعة أوراق وأقلام ملونة والتففنا حوله في دائرة
نقترح خطوات حل اللغز بعشوائية حتى اسكتنا هو بتلخيصه الخطوات في جمل واضحة:
" هننزل بليل نستخبى في الحوش عند الطيارة ونراقب اللي هيحصل، التلاتة الكبار
هما اللي هينزلوا أنا وتامر وهيثم، الباقيين فريق هيراقب مدخل الحوش والعمارة، وفريق
هيداري علينا عشان نعرف ننزل من غير ما حد يحس"
انهينا الاجتماع وتحركنا إلى منازلنا ونحن نحمل سرنا
الكبير. ساعة الصفر الحادية عشر ليلاً وكلمة السر التي لا نعلم متى سنحتاجها
"الشبح".
لم تسر الخطة كما أردنا بالضبط. نام بعضنا قبل أن تدق
الساعة الحادية عشر، وجبن البعض عن النتفيذ، كما عجز تامر وأخرين عن التسلل من
منازلهم، لذلك انتهى الأمر بنزول محمد وهيثم للاختباء في الحوش جانب الطائرة ورامي
للمراقبة عند المدخل. لأسباب غير مفهومة فكر الأولاد في تطبيق أفكار بسيطة للتنكر،
فوضع محمد على رأسه بيريه يستخده والده ليداري به صلعته وربط هيثم على كتفيه ايشارب
كبير خاص بأمه اقتداء بلباس أبطال السوبر هيروز.
كان الشارع هادئاً كونه شتاءً بارداً وليلة يتبعها يوم
روتيني من الدراسة والعمل. تسلل الأولاد واخذوا أماكنهم في الحوش الذي نام كل أهله
إلا من عم جمعة الذي جلس أمام العشة وقد أشعل ناراً للتدفئة من بعض الأخشاب
اليابسة. التزم الأولاد أماكنهم وتحلوا بصبر عظيم في الهدووء والمراقبة. بقوا جانب
هيكل الطائرة المحطم لمدة ساعة حتى بدأوا يتململون ويتحركون متسببين في تخبط جزء
من الحطام الموجود وإحداث جلبة انتبه لها عم جمعة وتوجه لتنفقد الأمر.
كانت نار التدفئة المشتعلة تنير جزء من السور بجانب
الحطام، وحين اقترب عم جمعة كان الأولاد يتحركون في محاولة لاتقان اختبائهم حتى لا
يكتشف وجودهم وينتهي الأمر بتسليمهم إلى أهاليهم وعلقة ساخنة لكل منهم. قررمحمد أن
خير وسيلة هي الهجوم، سيخرجان ليعترفا لعم جمعة أنهما أيضاً رأيا العفريت فيتعاطف
معهما ويخلي سبيلهما في سلام. لم يفطن الطفلان أن مع اقتراب عم جمعة فهو قد بدأ
يرى تراقص خيالهما على الحائط. ولكن لعم جمعة كانت الخيالات المتراقصة تبث رعب
حقيقي في قلبه.
نطق عم جمعة في صعوبة شديدة فضحها اهتزاز صوته وهو يحملق
في الخيال على الحائط "مين ... أنت
مين؟"
كان الطفلان في قمة خوفهما هما الأخرين، فرد محمد بصوت
متحشرج "أنا محمد!"
جحظت عينا عم جمعة والهلع يأكل ملامحه كلها وسأل في تردد
"الشهيد الطيار محمد!؟"
ارتبك الطفلان حيث لما يفهما جيداً تطور الأحداث على هذا
النحو واعتقدا أن عم جمعة يرى شبحاً حقيقياً لا يرونوه هما!
تحرك الطفلان إلى الأمام ليخرجا إلى النور فبدا خيال
هيثم بجسده الممتلئ والايشارب المربوط حول رقبته يطيره هواء الشتاء وراءه ككائن
ضخم يكاد يبتلع ما أمامه متضمناً خيال محمد ببيريه الطيار ثم عم جمعه نفسه. وبرؤية
هذا الخيال غير المفهوم شهق عم جمعة وانتفض جسمه لأعلى ثم طب على وجهه ساكتاً.
جرى الولدان في ذعر قاطعين الحوش عرضاً إلى الخارج. أخذا
رامي في طريقهما وهو يردد في عدم فهم "ايه اللي حصل ؟ ايه اللي
حصل؟" فيسكته محمد وهم يركضون إلى
داخل العمارة "احنا موتنا عم جمعة!". بينما رامي لا يفهم ما حدث وهيثم
يبكي رعباً مما فعلاه، أقترح محمد أن يبقى الأمر سراً بينهم إلى الغد.
عدنا من المدرسة ذلك اليوم وبدت الأمور طبيعية في
العمارة وما حولها، كنا قد عرفنا – باقي الأولاد – ما حدث ولكننا احتفظنا بالسر.
حين دخلنا إلى منازلنا عرفنا كل من أمه أن عم جمعة في العناية المركزة اثر أزمة
قلبية أصابته أمس ليلاً.
كان القلق وتأنيب الضمير يكاد يقتلنا، في تجمعنا اليومي
على بسطة السلم ساعة المغرب كنا نقلب الأمر على وجوهه المختلفة محاولة لفهم ما حدث
وعجزنا أن نعرف، فاتفقنا أن يبقى الأمر سرنا الدفين إلى الأبد خوفاً من العقاب بعد
أن أخبرنا رامي أننا قد ندخل كلنا سجن الأحداث لهذه الجريمة.
جائتنا الأخبار بعد عدة أيام أن عم جمعة لم يمت وعاد إلى
غرفته في الحوش محمولاً عاجزاً عن الحركة والنطق. عدم موته خفف قليلاً من شعورنا
بالذنب ولكن الخوف بقا. بعد ذلك عادت حورية لتمارس الأعمال المنزلية في شقق العمارة
وكانت تبدو ممتقعة وواجمة أكثر مما قبل وحين سألتها أحد الأمهات عما بها، قالت
يصوت متردد: "بليل قمت أبص على أبويا الراقد يكون عايز حاجة، شفت العفريت ماشي
في الحوش .. من ساعتها كل ليلة بشوفه"
سمعها رامي. أخبرنا بذلك أول ما التقينا على بسطة السلم.
أكلنا الخوف والحيرة وكانت هذه أخر علاقتنا بالحوش.