المكان بعيد .. واجب عزاء لراحل عن دنيانا، أصلاً لا اذكر ملامحه .. رأيته مرة أو مرتين سابقاً، تلك الرؤية المُهملة التي لا تسمح لك باستيعاب ملامح الشخص المعني بالرؤية .. اعلم أني بالكاد تبادلت معه كلمة أو كلمتين سابقاً ، أيضاً هذا الحديث الذي لا يسمح لك أن تعيه فتتذكره لاحقاً .. و مع ذلك بقى العزاء واجب ... تلبيةً لعلاقتي باحدى بناته التي لم اختار أن تكون لي علاقة بها
طريق القيادة طويل .. واجب العزاء يلزمه السفر .. في منتصف الطريق بين قاهرتي و الاسكندرية حيث
سكن الراحل كل عمره أو أغلبه .. اذهب لا لسبب إلا لأن يراني أهل الراحل و يعلمون أني هنا .. ليروا أني أشاركهم الأحزان و أشاطرهم المصائب .. إن كانوا يعلمون جيداً أني لا أشاركهم شيء و لا هم يشتركون معي في شيء .. و لكن لأسباب بالية ظل العزاء واجب
ادخل المنزل متعثرة في خطواتي حيث انفصلت عن الذي شاركني طريق السفر لأتوجه لمجلس النساء بينما يسلك هو طريقه لمجلس الرجال .. مجلس الرجال بالخارج في الهواء الطلق .. مجلس النساء في المنزل المختنق.. ادخل فألمح الأجساد الكثيرة المتراصة .. لا أعرفهم و لا يعرفني منهم أحد .. مقعد خالي في مواجهتي أدخل سريعاً و أجلس لأزيل الحرج الذي لحقني بتفحص العيون المتسائلة عن كينونتي. تخرخ من داخل إحدى الغرف واحدة من بنات الفقيد لا اذكر اسمها .. اهب لمصافحتها ، اسأل عن التي تعنيني .. تخبرني أنها ستحضرها للقائي
اجلس مرة أخري و قد زال بعض الحرج .. على الأقل ستعرف جموع المعزيات أنني هنا لسبب .. اتجول
بنظري و اجد نصف الغرفة عن يميني الذي لم ألحظه في البداية خالي الأثاث محتشد بالنساء .. جالسات على الأرض في حلقات متشابكة .. .. سواد سواد في كل مكان .. اشعر النظرات المتفحصة و ألعن غبائي الذي جعلني البس غطاء رأس أبيض اللون لأكسر حدة السواد الذي ارتديه حيث بدا لي أن هذا هو خطأي الذي بلاني بكل هذا التفحص و الاستنكار
تأتي ضالتي .. تصافحني .. كلام أجوف .. تجلس في مواجهتي و تجلس أمها مركز العزاء جانبي .. أعلم الآن أن موقعي خطأ بكل المقاييس .. أن اجلس في مركز عزاء ليس فيه لي شيئ .. اعود مرة أخرى بطرف عيني لحموع النساء
كثيرات .. يرتدين ملابس سوداء ريفية فضفاضة .. أغلبهن كبار السن .. مشقةكونهن فلاحات واضح على وجههن .. أجساد ممتلئة مترهلة .. و أجساد جافة ممصوصة .. وجوههن المشققة مرعبة .. عروقهن النافرة مرعبة .. قطرات العرق على وجوههن من فرط تكدسهن مقززة ..نساء كثيرات .. سواد سواد .. كأنهن شارات الموت .. ليس فيهن من الحزن شيء .. فقط السواد ... نظراتهن جامدة .. هن أيضاً ليس لهن في الميت شيء .. فقط السواد .. جئن برين أنفسهن لصاحبات البيت .. سواد كثير .. يعلمونك ببساطة أن هنا الميت .. و لكن هل لهن من الحزن شيء؟
تتململ مركز العزاء و هي ترى الجموع تريد أن تنفض .. تنهرهم معاتبة .. "تمشوا من غير غذا؟" .. افتح عيناي على آخرهما و افكر "غدا إيه في العزاء" و استشعر أن هذا قد يؤثر على ذهابي المقدر خلال دقائق .. اعلم فيما بعد أن العزاء في الأرياف يستوجب تقديم الغذاء للمعزين القادمين من سفر
يالله ... يالأشياء التي تفقد معناها .. لم استشعر أي شيء من هذا العزاء إلا الواجب الثقيل .. لم أواسي أحد و لم يمثل وجودي شيئاً لأحد .. وجودي مجرد عنصر في لوحة العزاء المرتبة تفاصيلها منذ دخل الراحل مشفي العلاج في غيبوبة طويلة لم تنتهي .. لوحة العزاء التي تضمنت المكان و جموع المعزيين و بعض من حزن المقربيين الذين لا يحتاجون كل هذا التجمهر حولهم .. و أخيراً الغذاء
تهمس مركز العزاء في اذن احدى الشابات الفلاحات حولها قوليلهم يهمّوا في الغذا .. الناس عايزة تمشي
احزن داخلي على كل شيء يفقد معناه معناه .. فقدان القيمة الذي يجبرك أن ترى في زفافك وجوه لا تعنيك و تفتقد أقرب المقربين .. و في أوقات حزنك تضج بالمعزين الذين ليس لهم في مواساتك شيء و يحملونك فوق العبء أعباء
اشفق لحال أهل اليت
السواد حواي يزداد .. التفت للكتل المتواجدة حولي .. انظر للكتل المتراصة أمامي.. اشعر أن نظرات المعزيات تعتصرني .. تمقتني .. تكرهني لأن ليس لي في الميت شيئ .. ينظرن إليك بعيون جامدة تتساءل متي يحين دورك .. يتكاثرن .. بقع السواد تتزايد .. كأن كل بقعة تنشطر اثنتين فيتزايدن ... اختنق اكثر
يأتيني الانقاذ من الخارج بأنه وجب الرحيل .. اتممتم بكلمات غير مفهومة للمجاورات .. احتضن التي تعنيني و لا تعنيني بلا احساس .. اخرج مسرعة و انظر خلفي لجموع و بقع السواد ... اهرب من شارات الموت تلك .. فكأنهن الموت ذاته
***************************************
من إيحاء الثلاثاء الماضي 25 أبريل 2006