Sunday, September 30, 2012

التبــــــــــــــــــــاس


يهاتفني أبي الذي يعيش في بلد آخر .. يسأل عن الجنين ثم يخبرني أن قلبه دليله وأنه سيأتي على ميعاد الولادة دون أن يكلمه أحداً وقتها. نضحك كثيراً كثيراً ثم نسّلم ونغلق الخط. أشعر بعدها بغصة في حلقى وحرقان  في عيني. يكبر أبي في السن بينما أراه يصغر .. يصغر كثيراً حتى أصبحت أحمله على ظهري أو أعلقه في صدري أو أقبض عليه في كفي.  
ذ
ألد ولا يأتي أبي في الموعد. بل تخبره أمي ويأتي بعدها بيوم حين يتوفر مقعد بالطائرة! 
ذ
منذ أعوام وأنا كلما استحضرت سيرة أبي لا أرى إلا صوراً محددة ...أبريل 2002: أبي يبكي في ردهة مستشفى خائفاً على أمي التي تجري  عملية كبيرة، يحادث أخاه في الهاتف وبين نحيب صوته يقول "فيفي .. فيفي بتعمل عملية". أكتوبر 2003: أختي الأكبر تلد وأبي في الجوار يتمتم "كبرتي قوي كبرتي قوي" . أغسطس 2005: أبي في غرفة بالمستشفى بعد اجراء عملية صغيرة، نائم واثر البنج لم يزل، وجهه أبيض شاحب وأشعة شمس متسللة من وراء ستارة تستهدف وجهه فيبدو أكثر شحوباً ووهناً. سبتمبر 2012 ابعث لأبي رسالة على الهاتف اذكره بعيد ميلاد أمي.
ذ
بين الصورأبتسم لحظة وأمتقع لحظات .. أفكر كم أن علاقتنا بأهالينا ملتبسة. 
ذ
ألد  .. فأصبح أكثر جبناً وأكثر اهتزازاً .. يبكي المولود فيوجعني قلبي ، يضحك فيوجعني قلبي أكثر. تضغطني المسؤلية تجاه الصغير قتلتبس علاقتي بزوجي. فأرى فيه ملامح من أبي وأرى فيّ ملامح من أمي .. كلما تحدثت مع زوجي تناتبني رغبة أن أتمتم "ايه البواخة دي" ! متى أصبحنا هكذا مملين ، فنتحددث فقط عن الطفل ونخرج فقط ليفرح الطفل ونبني أحلامنا فقط لمستقبل الطفل ثم يشعر كل منا أن الطفل يحبه أكثرفنتشبث به أكثر.   
ذ
تسافر أمي لتقضي الوقت مع أبي الذي لم يعد يطيق العيش وحده ومع السن أصبح القلق عليه مبالغاً فيه .. كلما أودعها تأتيني الغصة في حلقي ويداهمني الحرقان في عيني. حين تكون أمي هنا تسيطر على أحاسيس المسؤلية عن اسعادها ورعايتها ودفع الملل عنها، فأتلكك لأمر عليها يوماً بعد يوم، أواخذها معي في مشاوير واهية، ثم أسألها عن أي أمور ترغب في انجازها واذهب معها واذكرها بموعد الطبيب الذي تتجاهله وأطلب منها أكلات لا تهمني وأترك الطفل معها لأشغلها. ثم بعد فترة تخنقني المسؤلية فأتضايق خلسة وأتهرب. ولكن في المطار وأنا اتابعها وهي تختفي عن نظري لا أحتمل منع دموعي فأبكي كما يبكي طفلي حين أتركه وتتملكني رغبة طفولية جامحة أن أمسك طرف فستانها أو أتعلق بساقها. بعد أن تسافر، تحاصرني المتاعب فأرغب في محادثتها ولكني أجبن حين أتذكر كيف ان صوتها البعيد على الهاتف يشج نفسي، فلا أتصل وتبقي العلاقة ملتبسة.    
 ذ
كان الطفل صعب المراس. في الليل يبكي فاستيقظ لألبي طلباته، أهدهده وأغني له فينام على يدي .. وسط الغناء الخافت دائماً تغالبني الدموع .. ثم انظر لزوجي النائم وأخاف كثيراً أن نفقده. لا أري فيه حبيبي ولا زوجي، أرى احتياج شديد كأننا جميعاً معلقين في رقبته.
ذ
هناك حقيقة محزنة في شعورك أنك تكبر، هناك حقيقة أكثر حزناً في شعورك أن أبواك أيضاً يكبران.  ثم هناك حقيقة مفرحة أن ولدك يكبر دون أن تكترث كثيراً لكونك تشاركه الفعل. نفس العمر الذي سيداهمك فيه ألم خفيف بالركبة عند صعود السلم هو العمر الذي ستقضي فيه وقتاً طويلاً مع والديك في جلسات الكيماوي أومراكز غسيل الكلي أو عيادات الأطباء العادية ان كنت أكثر حظاً. نفس العمر الذي ستكون معني فيه بتهذيب ابنك هو العمر الذي ستتغاضى فيه عن سيجارة أبيك الي يشربها خلسة في البلكونة تحدياً للطبيب وتتغاضي عن التلفاز الذي ترفع أمك صوته ملعلع واصل للجيران. نفس العمر الذي ستتأكد فيه أن أحلام مراهقتك لن تتحقق فلن تصبح رائد فضاء ولن تجوب العالم سائحاً ولن تغير الكون بالتأكيد هو الوقت الذي ستداري فيه حقائق خيبة أملك عن والديك وتستبدلها بانجازات أبناءك الساذجة لتفرح قلبك وقلبهم.  
ذ
أشغل نفسي كثيراً بكل من حولي وأخذ على عاتقي ترتيب تفاصيلهم وجدولتها وانجازها، حين يتملكني التعب من كل التفاصيل أتغاظ وأغضب ثم أهدأ في سلام أمومي فريد وأشعر أن زوجي ماهو إلا طفلي الآخر. 
`
يصر "سليم" الذي لم يتم عامه الثالث أنه كبير ويريد أن يذهب للمدرسة تيمناً بأبناء خالته .. فيؤكد في حماس بكلماته متعثرة النطق "أناااا كبرت" ... أنظر إليه في فرحة بالغة .. وهو يقول كلمات جديدة ويبني بيوت من المكعبات ويردد أسماء أصدقائه في الحضانة ويقلد أباه ويقلدني ويعبر عن غضبه لأن "يحيي" صديقه في الحضانة قال له أنه صغير، فأحاول أن أشرح له كيف أنه فعلاً كبر ولكن مازال يحي أكبر منه . 
أعلم أن بعد عدة أعوام لن أكون صديقتك المفضلة كما هو الحال الآن، وستهرب منا إلى أصدقاء آخرين، وتقول "محدش فاهمني" و"أنا بكرهكم"، وستخرج غاضباً وتصفق الباب وراءك وتجلس في غرفتك بالساعات غير عابئ بنا. أعرف كل هذا وأنا أحتضنك، وأنا أعدك أن أحاول ألا أحبك حب مرضي يجعلك محور حياتي ولكن دون أن أشعر تصبح محور حياتي .. 
ذ
رغماً عني كلما كبرت أنت ، أصغر أنا .. سأصغر حتى أكاد اتعلق في رقبتك أو تحملني على  ظهرك أواندس داخل كفك. هكذا العلاقات، ملتبسة!