Tuesday, February 03, 2015

يا مين يقولي أهوي!

كنا مجموعة متوسطة العدد من البنات والأولاد المنتمين لسنوات دراسية وأقسام مختلفة في كلية الألسن جامعة عين شمس، رغم اختلاف دراستنا ومواعيد محاضراتنا وأصولنا وأماكن معيشتنا إلا أننا استطعنا تكوين علاقات تقارب وصداقات معقولة بيننا منصّبين نفسنا المجموعة الألطف والأشهر نسبياً بين طلاب تلك الكلية المدرجة ككلية قمة فيدخلها الكثير من المولعين بالدراسة والتفوق، وتصنف كدراسة بناتي فيشح فيها عدد الذكور، والوحيدة وقتئذٍ على مستوى الجمهورية فيدخلها الكثير من سكان الأقاليم ونترفع عنهم قليلاً نحن القاهريون.  

كان وجهه وهيئته المختلفة واضحة لجميع مرتادي الدور الرابع في الكلية - "قسمي الإيطالي والأسباني" - حيث اعتادت مجموعتنا التجمع هناك لانضمام أكثر من فرد مننا إلى هذين القسمين. كان يميزه سنه الكبير بالنسبة لنا الطلاب المتدرجين من أواخر العقد الثاني إلى بدايات العشرينات، لذلك بدا "سمير" متفرداً! سمير أكبر من أكبرنا بما يقرب من العشر أعوام، دائماً يرتدي جاكيت جلد رخيص وحذاء رياضي ليس من ماركة معروفة، شعره الناعم مصفف على جانب واحد لامعاً من أثر كريم شعر، يرتدي سلسلة وإنسيال فضة بالتصميم متشابك الحلقات الذي يسميه الناس "كارتير" كأنه التصميم الوحيد الذي انتجه بيت الأزياء ذاك، أسمر البشرة وشارب رفيع يزين وجهه. عادةً ما يتجمع الطلاب في مجموعات تصغر وتكبر حسب التوقيت خلال اليوم في الممر الذي يسبق المدخل الزجاجي المؤدي إلى قاعات المحاضرات و"السكاشن"، وكان سمير في الأيام المتفرقة التي يأتي فيها إلى الجامعة يجلس في نفس الممر على السور الأسمنتي يمين أو يسار المدخل، وحيداً دائماً يدخن سيجارته ويشرب فنجان "قهوة مغلية سادة" كما كنا نسمعه يطلبها بصوت قوي شعبي من دادا زينب فراشة الدور.

كان سمير يبدو لي أقرب لهيئة سائق تاكسي معتني بنفسه وبسيارته الأجرة أكثر من هيئة طالب جامعي، ولكن وجوده الدائم في الجامعة يعني أنه بالضرورة ينضم لها! هناك أساطير دائمة يتبادلها الناس في أي مكان يرتادونه وهكذا كانت الجامعة، فنعرف جميعاً أمر الشجرة العتيقة المنشقة إلى جذعين كبيرين والتي نتجنب المرور تحتها لأنك إن فعلت بالضرورة "هتشيل مادة"، ونعرف شارع العشاق في الاتجاه الغربي للجامعة، ونعرف امن الجامعة الذي يترصد الطالبات الفاتنات أثناء دخولهن على البوابات وكم محاولة من هذه أفضت إلى خطبة البنت بالظابط الشاب، ونعرف الممنوعات التي يبيعها كشك جيمي في كلية الأداب على الناحية المقابلة لنا، نعرف كل ذلك ولا نتأكد منه بالطبع. وكنا أيضاً نتبادل حكايات غير مؤكدة عن سمير، ربما هو طالب فاشل دخل الجامعة متأخرأً وينهي السنة الدراسية بعد أكثر من محاولة فتقدم به العمر أثناء دراسته، ربما اضطرته ظروف قهرية أن يأجل الدراسة لعدة أعوام ثم انتظم بعد ذلك ليلحق ما فاته، ربما هو غاوي علام ويجمع الشهادات الدراسية فيكون ليسانس الألسن دراسة إضافية بعد أن درس الحقوق أو الفلسفة أو غيرهما. لم نبحث وراء الأمر كثيراً لأننا كنا ننسى سمير حتى نرى وجوده الشاذ كل بضعة أيام جالساًعلى السور الأسمنتي فنعيد التساؤلات في رأسنا ونضحك قليلاً على هيئته القديمة ويصر زميل لنا أن يغني بصوت ردئ كلما رأيناه يحتسي قهوته المنفردة " اهوى اهوى ... أنا أنا أنا اهوى ... يا مين يقول لي اهوى ... اسقيه بايدي قهوه". وكأن أحياناً يسمعنا سمير فينظر لنا بلا اكتراث، ويبدو مستمتعاً جداً بفنجانه الوحيد حتى أننا كنا نلمح ابتسامة خفيفة، وأصبحنا بعد ذلك حين نريد أن نذكره نقول سمير قهوة وقد عرف بشكل ما أن هذا هو اسمه.
     
في صيف ما - وكنت قد انهيت عامي الدراسي الأول بالجامعة - كنت أقلب بين قنوات التلفزيون بحثاً عن كليبات الأغاني الذائع سيطها حيث كانت هذه الأغاني قبل سهولة الاتصال بالانترنت وتعدد القنوات الفضائة هي قمة الانتفتاح وقتها، كنا نحب جداً أغنية "ليلى" لمحمد منير، توقفت عند الأغنية لمتابعتها ولم تكن المرة الأولى التي أشاهدها ولكن لأن فكرة التصوير تقوم على تتبع منير بينما ناس كثيرة وتفاصيل أخرى تحدث في الخلفية فكنت عند كل مشاهدة ألاحظ شيئاً جديداً وفي هذه المرة كان حظي أن ألاحظ أن قبل نهاية التصوير يمر شخص أسمر البشرة يرتدي جاكيت جلد وسلسة كارتير ما هو إلا سمير! يمر بلا اكتراث كأنه هنا صدفة بعد ان انتهى من قهوته الوحيدة وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة. 

في العام الدراسي التالي، قلت جداً زيارات سمير للكلية ولم نعرف ماذا حدث له ولم أقل لأحد اني رأيته في الكليب المشهور، ولكن في مرة من المرات قبل أن يمتنع تماماً عن المجئ كنت قد وصلت مبكرة ولم أجد أحداً من مجموعتنا لأجلس معه، مررت يومها أمام سمير وقلت له بتردد "صباح الخير"  فرد الصباح وسألته عن الكليب ، فضحك كثيراً  ولم يجبني! وظللت في حيرة مابين سمير مشروع الفنان المغمور وبين مشروع التاكسي الذي كنت أراهن أصدقائي أننا سنخرج مرة من الجامعة لنري سمير يغسل سيارته الأجرة المزعومة في الباركينج.

وبعد ذلك بأعوام، كما تذكرني القهوة دائماً بأغنية اسمهان فأنها أيضاً تذكرني بسمير فمازلت وأنا أصب قهوتي أدندن "تدبحني عيونك لمّا تخطفني وسط اللمة ..  ليلى يا ليلي يا ويلي يا ليلى" ثم أغلق عين البوتجاز وأفكر ان كان سمير وجد من يشرب معه قهوته!