Thursday, July 10, 2008

لم تعد عمتي نعمت

عمتي نعمت ... ليست عمتي، هي عمة أمي. جرت العادة أن ندعوها نحن الجيل الثالث إليها – عمتو نعمت – وظلت أمي وظل خالي يدعونها "عمتي" وليس "عمتو" كما ندعو عماتي لأبي مثلاً ... وبدا لي التغيير البسيط في تبديل الواو إلى ياء مدلول لشئ ما اختصت به عمتي نعمت.ذ

نعمت وليست نعمة، تنتهي بتاء مفتوحة! قالت أمي أن الاسم قديم وله مدلولات أرستقراطية، وأنهم أسموها خلفاً لنعمت هانم ابنة عم جدي لأمي والتي كان لها شأن عظيم بين الهوانم. تقول أمي هذا وهي تقرأ لنا من الجريدة في أواخر الثمانينيات نعي نعمت هانم الأولى، عاشت طويلاً الهانم كما يبدو ولكننا لم نرها أبداً خلال هذا العمر الطويل. ذ

ظلت زيارة عمتو نعمت لنا كأطفال حدث جلل، نتأنق كثيراً استعداداً للزيارة، ونهتم كثيراً بماذا سنرتدي وكيف سنبدو وماذا سنقول، وتؤكد علينا أمنا حسن التصرف والسلوك. كنا نسكن وقتها بالهرم وأمي لم تكن تعرف قيادة السيارات. سكنت عمتو نعمت في المعادي بجانب محل الحلويات الشهير، وتراءى لي وقتها أن الطريق من الهرم إلى المعادي سفر عظيم. حتى بعد أن مرت السنين وانتقلنا للسكن في مدينة نصر وكانت أمي قد تعلمت قيادة السيارات، لكني ظللت أستشعر أنه مشوار طويل، صعب، وقد يلزمه بعض الضياع قبل أن نصل. ذ

كان بيتها شكل أخر من البيوت ... نصعد سلالم الأدوار الخمس، نصل للباب الذي يبدو مختلفاً عن أبواب الشقق التي مررنا بها أثناء الصعود، فتفتح "صدّيقة" لنا الباب، وكأنها فتحت لنا أسرار الكون، ولصدّيقة قصة أخرى. ذ

في منزل عمتو نعمت جانب كبير مخصص للزرع، شرفة تم تقفيلها لتتسع لأنواع وأشكال من قصاري الزرع المصفوفة والمعلقة. كنا دائماً نشتري لها الورود في الطريق لأنها تحبها كما تؤكد أمي. لا تأتي نعمت لتجلس معنا إلا بعد أن تفتح الورود وتنزع عنها الأشواك بمقص خاص ثم ترصها في آنية تضعها بتمهل في مكان ترتضيه. لا تنسى أن تقول لنا وهى تنسقه أنها تضع ملعقة سكر في مياه آنية الزهر فتعيش الزهور عدة أيام. يتفتح عقلي على إهتمامات جديدة ممكنة لبني البشر. ذ

شعرها أبيض لا تصبغه أبداً، تقصه قصيراً فيبدو كهالة بيضاء منسقة حول وجهها. كنت طيبة ومبتسمة وهزيلة جداً جداً. كنت أعتقد وقتها أن الجدات يجب أن يكن ممتلئات، ولكن عمتو نعمت هدمت اعتقادي. اعطيتها عذراً بعد ذلك حين أخبرتني جدتي أن عمتو نعمت كانت ممتلئة فيما قبل، ولكنها هزلت بعد أن مات ابنها الشاب وهو في العشرينات من عمره، "عِدمت صحتها" كما علقت جدتي. ذ

أسّلم عليها فتنحني تقبلني، كان كفي يلامس كفها وذراعيها فأشعر أن لجلدها ملمس غريب، جلد لين عليه زغب، كفرو لعب أطفال. أقول ذلك لأمي في وقت لاحق فلا تفهم ما أعني بالظبط، حين كبرت قليلاُ عرفت أن الكبار تتعب أجسادهم فلا تظل مشدودة، تترهل جلودهم وترتخي أعصابهم، أدركت ذلك حين لاحظت جلد أمي وقد بدأ في الارتخاء والبقع البنية تنتشر عليه. ذ

تستقبلنا في صالونها الأنيق، الجدران جميعها مغطاة بصور الأقارب ولوحات المعارف الذين يهـون الرسم أو يحترفونه. نقف نطالع إحدي الصور ونسألها : "مين دي يا عمتو؟" ترد دي صافي بنت منيرة بنت خالى بس وهي صغيرة، دلوقتي بقت عروسة" وتحت صورة أخرى "مين رسم اللوحة دي يا عمتو؟" ترد "دي جدكم صلاح الله يرحمه رسمها واحنا في اسكندرية" تقول ذلك وهي تشير لنا على التوقيع في أسفل اللوحة. ذ

بعد بضع سنين أصبحت تستقبلنا في غرفة المعيشة بدلا من صالونها الأنيق، لم تعد حركتها سهلة كما كانت. تجلس في كرسي معين وحقيبة يدها الكبيرة على الأرض جانبها، تضع فيها كل احتياجتها فلا تقوم كثيراً: الأدوية ونظارتها وعلبة سجائرها كيلوبترا. حين دخلنا عليها في مجلسها المستحدث قالت مخاطبة أمي : "إيه ده، فيفي اتحجبت .. بس فيفي متحجبة عشان الشياكة" تنطق شياكة بفتح الشين. يقول زوجها معلقاً بنبرة محايدة "الناس كلها اتحجبت".ذ
في غرفة المعيشة أرى الجدران مغطاة بالكتب، من أعلى لأسفل رفوف خشبية تحمل مجلدات وأوراق مختلفة الأشكال والألوان. ذ

كان الحديث لا يتوقف أبداً، لا يكف زوجها الطبيب الشهير عن الحوار والحديث معنا نحن الصغار. يسألنا ويسألنا وتنبهنا أمنا بين أسئلته "علوا صوتكم عشان انكل يعرف يسمع" ، فيوجه حديثه إليها "بحب أشوف الشباب الصغير بيفكر ازاي". لا يكف هو وعمتو عن إدهاشنا بأن رغم تجاوزهما الخامسة والستين يتابعان كل شيء بدقة، فيخبرنا عن اعجباهما الشديد بأغنية "عدى الليل" لإيهاب توفيق. ذ
في زيارة أخرى تعبر أمي عن حزنها الشديد لوفاة الشيخ الشعراوي، فيعلق زوج عمتي أنه لم يتابعه كثيراً لأن صوته كان عالياً وطريقته في الحديث سوقية لذلك لم يناسبه. ذ

كلما زرنا عمتو نعمت، كانت هناك "صدّيقة"، وندعوها جميعاً "ماما صديقة". "صديقة" تخدم عمتو نعمت ولكنها ليست أبداً خادمتها . "صديقة" أيضاً بدت منفردة فهي رغم بساطة أصولها تتحدث عربية غريبة تخالطها كلمات إيطالية صحيحة تعلمتها من سيدة إيطالية كانت تعمل لديها قديماً. فتقول لنا أنها قبل مجيئنا وضعت زجاجات المياه الغازية في الثلاجة "بيانو بيانو" حيث أن ميمي كانت نائمة. ولأن "صدّيقة"ذ تتحدث بسرعة ولا تنتظر لتسمع أي رد لما تقوله، كان علينا أن نستنتج من السياق أن بيانو بيانو ربما تعني أنها وضعتها بهدوء وأن ميمي ربما هي عمتو نعمت! ذ

ذ"صديقة" أرملة لرجل لم أره أبداً ... تحكي لنا أمي أنها تزوجت زوج أختها المتوفاه لتربي أولادهما وبعد ذلك مات الرجل وبقت معها قرطة العيال. تعمل "صديقة" وتربي الأولاد جميعهم، فتخدم لدى جدي ثم تنتقل لعمتو نعمت بعد أن يتوفى جدي. "صديقة" يناوشها "مغربي"، سائق وخادم زوج عمتو نعمت، يعمل لديهم منذ كان صبياً، كبر في منزلهم فأصبح شاباً ثم رجلاً حتى تجاوز الأربيعين. رأيت "مغربي" مناسب جداً لأن يكون زوجاً "لصديقة"، ولكن عدم زواجهما ظل لغز لم استطع حله. ذ

مرت السنوات، وخفت الزيارات، فلم أعد أرى أياً منهم، كبرنا ولم نعد نشارك العائلة واجباتها الأسرية. في عام
2002 تكلمني أختى الصغرى في العمل وتخبرني "عمتو نعمت ماتت، احنا رايحين دلوقتي" أصمت مذهولة وكأني تذكرت فجأة أن عمتو نعمت كانت مازالت حية. "أجي معاكم؟" ترد أختي "يا ريت، أصل ماما زعلانة قوي" ألملم أغراضي وأهرول من المكتب وأنا أخبر زملائي "لو حد سأل، أنا عندي حالة وفاة". ذ

حين ذهبنا يوم الوفاة إلى منزلها في المعادي أدركت أن الطريق ليس طويلاً والوصول إلى منزلها ليس صعباً كما اعتقدت. أجلس هناك على كرسي بغرفة المعيشة بينما توجهت أمي وأخريات إلى غرفة مسجى بها الجسد ليقمن باجراءات التغسيل. أجول بنظري فأطالع الكتب التي غطت الجدران، وأري جانباً بأكمله تحتله أجزاء الموسوعة البريطانية، لم أكن أعلم أن الموسوعة البريطانية قد يملكها أشخاص عاديين في منازلهم العادية، تماماً كما أخبرني هذا المنزل من قبل أن الجدران يمكنها أن تحمل أكثر بكثير من ألوان وأنواع الدهانات، تحمل ذكريات ومعلومات ووجهات نظر. و أن للبشر اهتمامات أخرى غير تلك التي اعتدها، والأهم أن لهم أراء مغايرة يعبرون عنها بشجاعة. ذ

ينادون لزوج عمتي بعد أن انتهين. يتحدثون معه خارج الغرفة فتقول له زوجة ابنه "ادخل سلم عيلها ياجدو، خليك شجاع وانت بتودعها" .. يالله لماذا تذكره أنه سيودعها. يدخل الغرفة ويرى جسدها النحيل يرقد في وداعة، يقبلها بهدوء على جبينها ثم يلتفت فأرى في عينيه نظرة مختلفة كثيراً عما اعتدتها منه. يدخل غرفته ويترك الأخرين يأخذونها إلى المدافن، صحته لا تسمح له. تبقى السيدات في المنزل وأنا معهن، يأتينا بعد قليل صوت الزوج من غرفته يبكي كطفل صغير. ذ

لحق بها زوجها الطبيب بعد شهر ونصف من وفاتها الذي لم يتحمله كما يبدو. "حتى مَـغربي بطل يشقر على انكل، سرق فلوس من الدولاب ومحدش شافوا بعدها .... كأن كلهم ماتوا" تقول أمي. تقرربعد ذلك أن تحكي لنا باقتضاب عن ابنهم الذي مات في العشرينات من العمر كان شاباً رائعاً ،طبيباً مثل أبيه، تنهي الحديث فجأة بأن الجرائد كتبت أنه انتحر. ذ

منذ يومين، أخذت أمي لقضاء مشوار هام ، الآن أقود أنا وأمي تجلس جانبي. من كورنيش المعادي ندخل يميناً، فتقول أمي "يــــاه ده جنب بيت عمتي نعمت خالص". انظر لها بذهول وفي عقلي أتمنى ألا أجد البيت هكذا سهلاً، أسأل أمي "هو مين أخذ الكتب اللي كانت عندهم "ترد أمي "مش عارفة، محدش ساكن في البيت دلوقت" ذ
يبدو منزل عمتو نعمت عادياً جداً من الأسفل، فالمنزل في منطقة واضحة المعالم في المعادي القديمة جانب محل لابوار الشهير الذي إن سألت أي ماراً في المعادي لأخبرك بسهولة أين يقع. ذ
~~``ذذ
\ذذ