Tuesday, March 18, 2008

خارج الشبابيك الزجاجية

على الطريقة الأمريكاني رصت مكاتبنا مكعبات متجاورة، فكرة مبتكرة لاتاحة مساحات إضافية في الغرف الضيقة التي لا تتسع للمئات من موظفي الشركات. وجوهنا تطالع حيطان الفواصل المقامة بين مكاتبنا لتفرقها عن بعضها البعض، ظهورنا للممرات، ويحيطنا من الجوانب فواصل أخرى لمنع أي اتصال جانبي ممكن. مساحتك الشخصية الوحيدة المتاحة أثناء يوم العمل أصبحت مفضوحة بوقاحة لكل مار خلفك، وحين لا تسشعر وجوده يطالع هو شاشة الكمبيوتر ومتعلقاتك الشخصية وأي شيء آخر تفعله. ذ

جالسة في قفصي الضيق مكعب الشكل، المصنوع من أخشاب حديثة مضغوطة وأنواع من البلاستيك المصنفر، تضيق الدنيا في عيني وأنا محبوسة في مساحتى المتاحة...متر في متر ونصف...أدفع الأرض بقدمي في قوة فيندفع كرسي المكتب ذو العجلات إلى الوراء. أهب واقفة لأردع أحاسيس ضيق التنفس التي تنتابني...ذ
أتنفس بعمق...ذ
شهيق طويل...زفير...ذ
شهيق طويل...زفير...ذ
مازال النَـفَس غير مشبـِـع والهواء مستعص!ذ

أقوم إلى الملاذ الوحيد...الشباك الواسع على جانب المساحة التي رصت فيها مكعبات تسعة من الموظفين. عملي في بناية إدارية كبيرة تقع في منطقة خالية من العمارات السكنية، فهو واقع على طريق سريع خال نسبياُ من المارة إلا العاملين بشركتنا وبعض المصالح القليلة المتناثرة حولها.ذ

من دور علوي أطل من وراء الشباك الزجاجي وأرى العالم كأنه ماكيت لتخطيط مدني جديد، شوارع منمقة ذات خطوط بيضاء متساوية، عدد من أعمدة النور مصفوف على الجانبين وتتوالى معها أشجار رفيعة عالية خضارها شاحب. على يمين الشباك، شارع سريع تجري فيه السيارات الملونة بسرعة جنونية. يلتقي الشارع مع أخر تعامد عليه تندفع منه السيارات أيضاً، تدخل الواحدة تلو الأخرى إلى السرب المتسارع فتتمازج الألوان. عند ملتقى الشارعين عجوز يحاول عبور الشارع بين السيارات، يتقدم نازلاً عن الرصيف فيباغته مد السيارات، يتراجع. ثم يبدو له انحسار السيارات مشجعاً، يعاود الكره فيحاصره المد مرة أخرى، يرجع مسرعاً.ذ

أرى أيضاً نصف مبنى به عمال قائمين على تشييده، يبدون في موقعهم كجزء من لعبة مكعبات للأطفال تصور لهم عالم البناء والأدوات والسقالات وما إلى ذلك.ذ

في الأفق البعيد أرى جزء من منزل الكوبري الطويل الذي يربط أجزاء القاهرة، تختفي نهاية المنزل وراء عمارة بعيدة وأشجار كثيفة حولها. يخيل لي أن السيارات تجري مسرعة على الكوبري ثم إلى المنزل فلا تصل إلى نهاية واضحة، بل هي تختفي في العدم! يعجبني أنني استطعت تعيين بقعة للعدم...فأبتسم!ذ


أفتح زجاج الشباك وأخرج منه...أقـف على الإفريز...أغمض عيناي وأفرد ذراعاي عن أخرهما...أتنفس بعمق فيشبعني الهواء في الخارج...يدخلني الأكسجين هادراً فتتدفق الحياة في شرايني وأوردتي فأتلون بألوان الحياة كلها...يزداد الهواء داخلي أكثر مما يحتمله سجن الجسد الضيق...فأتقدم لأطلق نفسي من فوق السور أندفع قافزة إلى الكون فأتفتت وينثرني الهواء جزيئات تسبح في الفضاء الرحب.ذ