أثناء يوم العمل، تمر لحظات ملل الساعة الثانية ظهراً ببطئ، أخرج ثمرة الخوخ التي أحضرتها في حقيبتي صباحاً، أقطع منها شريحة دائرية وأمسكها بأطراف أصابعي قبل أن تنزلق. أقضمها لتخرج كل حلاوتها وشرابها السكري وتتحول إلى شكل هلالي لونه أصفر مشوب بحمرة مشجعة. أقذف بها داخل فمي فتسعدني في خضم يوم أحد ممل متعب، فأعلن أن "الخوخ طعام مبهج".
ليلاً أجلس في المنزل جانبك أشتكي من يوم طويل لا ينتهي. متعبة أنا حتى أني لا أقوي على النهوض لأؤدي التزامات المساء التي بدت أشق من أي شئ آخر، لا أستطيع أن أقوم لأقذف أي طعام في معدتي الفارغة، ولا أن أقوم لأغير ملابسي الرسمية إلى أخرى مريحة فضفاضة، ولا أن أقوم لأصلي فرض العشاء وأنا أغالب النعاس. كل ما أستطعته أن أخلع حذائي وألقيه على الأرض تحتي لأجلس على الكنبة جانبك واليأس يتملكني من فرط التعب.
الجوع يقرصني ... فأحكي لك أني شاهدت الأسبوع الماضي فيلماً رائعاً عن رجلاً يعمل طباخاً ويعد الطعام لحبيبتة.
رددت مستنكراً "إيه الفيلم ده، هو في فيلم كده؟ مش عارف ليه حاسس إنك ألفتي القصة دي دلوقتي" أرد محتدة بأن الفيلم حقيقي وأنه بديع ومفرح وأنه يحكي قصة رجل أمريكي ذو أصول يونانية يملك مشروعه الخاص، مطعم على الطراز اليوناني يقدم فيه أكلات وطنه الأول، المطعم على وشك الافلاس فيبحث عن ناقد مطاعم لينشر مقالاً عن مطعمه فيخرجه من ورطته. وطبعاً الناقد فتاة جميلة يقع في حبها ويعد لها الطعام بنفسه في مطعمه. ثم استطردت أنه ربما لن يعجبك الفيلم باعتباره من فئة أفلام القناة الثانية التي تذاع في الرابعة عصراً .. فسألتني مستنكراً "وانت إيه اللي رجعك البيت الساعة أربعة العصر؟؟؟" فانفجرنا ضاحكين
لأني رأيته منتهى الحب! فماذا أكثر غواية من رجل يطبخ لامرأة؟ لا أجد شيئاً أكثر حناناً من رجل شديد الوسامة، يلف نصفه السفلي بمريلة مطبخ غامقة اللون ويزين بحرفنة شديدة طبقاٌ عليه قطع من الحلوى الفرنسية الملونة ليقدمه لحبيبته التي جلست على كرسى عالي أمام طاولة عمله تنتظر طعاماُ أعده لها خصيصاُ ليطعمه لها بأصابعه.
ولكن لأن المشهد السابق كان مستقطعاً من فيلم أجنبي يذاع الساعة الرابعة عصراً، ولأنك رجل شرقي لا تعرف كيف تطبخ طعاما مزيناً أو تخبز حلوى فرنسية ملونة، إلا أنك أشفقت على وقمت من جانبي، فكان أقصى ما قدمته لي: ساندويتش جبنة بيضاء مضافاً إليها الزيتون، لكنني أحببته جداً لأنه كان مصنوعاً بيديك ولأجل خاطري، فمع أول قضمة وجدته يفيض حناناً وفرحاً .. فحتى الطعام العادي يصبح استثنائياً فقط إذا جاء في وقته ... فتبدو لنا الدنيا وكأن لها مذاقات مفرحة.